المدون : ناصر بن عبدالله الهويريني
( 4 / 4 )
لن تُثمر مواجهة جيل الأجهزة الذكية بالعقلية التقليدية؛ لذا فالمنطق يفرض علينا قبل البحث عن الحلول أن نجتث من رؤوسنا نظرية الأبيض والأسود، ونقنع أنفسنا بإيجابية التغيير قبل أن نطلب من غيرنا البذل و الإخلاص والاحتساب. ونعتقد بلا شكّ أن الحياة كلها في تدرجات الرمادي، فالداء كامنٌ في العقلية التي يمثلها قول الشاعر: ((إما ذُنابى ولا تأبه بمنقصةٍ .. أو قمة الرأس واحذر أن تكن وسطا)) وقول الآخر: ((إما نجوماً في السماء .. أو ننحني تحت …)). إن مبتكري هذه التقنية، ومهندسي تطبيقاتها، قصدوا أن تكون هذه الأجهزة سنداً للمستخدم في أعماله، مساعداً له في هواياته، ومعززة لرفاهية الإنسان، فانقلب هدفهم رأساً على عقب، وأصبحت الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية هي الحياة لا مكملة لها، وليست من الظواهر العشوائية التي تستنفذ وقتها ثم تزول تلقائيا.
وفي مواجهة هذه الظاهرة لابدّ أن تتضافر الجهود؛ لتكثيف التواصل بين الأسرة والمدرسة كماً وكيفاً، ويصطفا متحدين في خندق واحد لمواجهة هذه الظاهرة، فالأسرة مضطرّة الآن إلى التدخّل؛ لتلعب دورها الأساس في التربية، والحدّ من الأضرار ما أمكن ذلك، إذ لو ترك الحبل على الغارب للطفل و المراهق، ولم نعالج إدمانه للأجهزة بتروٍ، واستيعاب وسعة صدر، واحتضان وطول بالٍ، فستطفو على السطح بعد فترة قصيرة تناقضات سلوكية، ونقاشات وحوارات داخل نفس الابن، تدور بين مايراه من سلوك أسري واجتماعي من جهة، وما يتعلمه من خلال الجوال، وهذا يُحدِث تشويهاً لنفسية الطفل، وإعاقة تربوية وقيمية نحن المسؤولون عنها.
جميعنا آباء وأغلبنا مربين نواجه هذا الابتلاء، لامعالجة لمشكلة بهذا الاتساع والعمق عن طريق تجاهلها، أوعدم الاكتراث، ودسّ رؤوسنا في الرمل، فالعالم لن ينتظرنا لنصبح جاهزين ونكون على استعداد، بل ستستمر عجلة الحضارة بالدوران، غير مبالية بمن تخلّف وراءها. كما أن العقاب الجسدي أو النفسي، والمنع والحجب والحرمان لاجدوى منه، وإن كان مريحاً للأبوين، وذا نتائج فورية، إلا أن هذا الالتزام وهمي غير حققي، وبمجرد أن ينفلت الطفل أو المراهق من ربقة الأبوين سيعود إلى تلك الأجهزة بنهمٍ وبقوة، كما أن هذه الطريقة قد تؤدي إلى إخفاقات تربوية كبيرة، بتعزيزها لعادات سلوكية غير مرغوب بها، مثل: اعتياد الابن الكذب على والديه، والتهاون بالقوانين، ومحاولة تجاوزها والتحايل عليها.
ووجهة نظري أن وعي الابن والطالب هو خطّ الدفاع الأول، فالعمل عليه والاستثمار فيه هو الورقة الرابحة، في مواجهة المشكلات الحالية والطارئة، إذا كان يمتلك عناصر الحصانة الدينية والتربوية والفكرية ؛ النابعة من ثقافة معرفية موازية، مقدمة بوعيّ، وفق برنامج تربوي للتنشئة الصحية الصحيحة، غايتها أن يواجه الأبناء المشكلات، ويتحدون العوائق، ويزيلون العقبات، مستقبلاً بإذن الله.
علينا إعادة النظر في عادات استخدامنا لهذه التقنيات والتطبيقات بما يخدم حاجتنا إليها فقط، فهذه الأجهزة وتطبيقاتها سلاح ذو حدين، فكما أنه يستثمر بذكاء وإيجابية فيكون نافعاً لدرجة كبيرة، يستخدم كذلك استخدامات سلبية. والمستفيد هو الوحيد الذي يتحكم بالنتائج، ويحدد عاقبة تلك التطبيقات، من خلال طريقة التعامل معها. والممارسات الخاطئة لها نتائج كارثية، فالافراط والالتصاق بالبرامج والتطبيقات ينتهي بالإدمان، ويخلِّف تأثيراً نفسياً واجتماعياً وسلوكياً مدمراً. وفي الجهة المقابلة هناك تعامل رشيد وواعٍ مع هذا النوع من الأجهزة، ولا شكّ أن الانضباط والاعتدال أمر إيجابي في كل شؤون حياة الإنسان، ومن ضمنها التعاطي مع الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية، يتمثل هذا التعامل في استفادة الشباب من الأجهزة بطريقة تخدم مايسعى إليه وبالقدر الكافي، ولا تضرّ به في الوقت نفسه. فنظرتنا للأجهزة الذكية كنظرتنا إلى الماء، قليله ينقذك، وكثيره يغرقك.
والخطوة الأولى في التعامل الإيجابي هي أن يحدد المستخدم أولويات الاستخدام، حتى لايسير بغير هدى في مجاهل الجوال، ويضيع عمره فيما لاعائد منه. ومن الانضباط تخصيص وقتٍ محدد للاستخدام اليومي، وقد نجحت هذه الطريقة مع من تبناها من الزملاء؛ فتحديد فترة زمنية يحدّ من الاستخدام السيء، ويعزز سلوك التعامل الإيجابي مع تطبيقات الجوال؛ كي لاتتمكن من أطفالنا ويصبحون أسرى لها. وقبل هذا وذاك متابعة الأسرة لأبنائها، أمرٌ بالغ الأهمية، وحدٌ فاصل بين نجاح الحلول وفشلها في هذا الشأن.
لكن … ماذا عن المستقبل ؟! هل سنعقد صلحاً مع هذه الأجهزة ويكون الآي باد وسيلة التعليم والترفيه في الحضانة ورياض الأطفال؟ لاشيء بعيد في جيل التقنية.